حق المسلم على المسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن للمسلم على أخيه المسلم حقوقاً يجب عليه أن يقوم بها وأن يؤديها؛ من هذه الحقوق:
رد السلام، وإجابة الدعوة، والنصيحة، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس))1، وفي رواية مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حق المسلم على المسلم ست))، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه))2.
فقوله: ((حق المسلم على المسلم)) أي حق الحرمة والصحبة، والحق يعم وجوب العين والكفاية والندب.
وقوله: ((ست)) من الخصال، وهذا لا يدل على الحصر؛ لأن هذا مفهوم عدد، ومفهوم العدد كما يقول علماء الأصول لا يدل على الحصر، ولأنه قد جاء في رواية: (خمس).وفي حديث البراء: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسبع ونهانا عن سبع: (أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم)3.
وقد جاء في رواية مرفوعة: "للمسلم على المسلم ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو: يغفر زلته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مودته، ويشهد ميته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويطيب كلامه، ويبر إنعامه، ويصدق أقسامه، وينصره ظالما أو مظلوما، ويواليه ولا يعاديه، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه"4.ولكننا سنتعرض بقليل من التفصيل إلى أشهر هذه الحقوق، وأجمعها، وهي ما جاءت بها الأحاديث الصحيحة مجموعة، وهي ست حقوق.
السلام:فعند لقاء المسلم بأخيه المسلم من حقه عليه أن يبادره بالسلام.
ولفظ السلام الكامل هو: (السلام عليك ورحمة الله وبركاته) إن كان فرداً، وإن كانوا جماعة أتي بضمير الجمع.
ويكون رد السلام بمثله أو أحسن منه، وهو واجب كفائي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين؛ وذهب بعض العلماء إلى وجوبه وجوباً عينياً.
وينبغي أن يسلم القائم على القاعد، والقليل على القليل، والراكب على الماشي؛ كما وردت بذلك السنة.
الحق الثاني: إجابة الدعوة:فإذا دعاك إلى وليمة كعرس، وجب عليك إجابة الدعوة إذا لم يوجد عذر، أو مانع من الحضور؛ كأن يوجد -مثلاً في تلك الوليمة- بعض المخالفات الشرعية من سماع لما حرم الله، أو ما أشبه ذلك، ولا يقدر على تغيير تلك المخالفات، أو التقليل منها، فإنه والحالة هذه لا يجب عليه إجابة الدعوة.
أما في غير هذه الدعوة من أنواع الدعوات الأخرى فإنه لا يجب عليه إجابة الدعوة، وإنما يستحب استحباباً مؤكداً.
فأما الامتناع عن الإجابة عند وجود المنكرات في الوليمة أو غيرها فقد دل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان: 72]. وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام: 68]. وغير ذلك من النصوص المحذرة من القعود والحضور للأماكن التي فيها منكرات ومخالفات شرعية تغضب الله تعالى.
الحق الثالث: النصيحة:كما في الحديث: ((وإذا استنصحك فانصح له))؛ قال النووي: "فمعناه طلب منك النصيحة، فعليك أن تنصحه، ولا تداهنه، ولا تغشه، ولا تمسك عن بيان النصيحة"5. هذا الحق وهذا الواجب ينبغي أن يوليه المسلم مزيد عناية حيث لا يستنصحك أخوك المسلم إلا وهو يثق فيك، ويطمئن إلى رأيك، فعليك بإخلاص النصيحة، وعدم إخفاء ما تعلمه أو تعرفه عن الأمر المستنصح فيه.
كأن يستنصحك في تجارة أو في شراء بضاعة، أو في الزواج من امرأة ما، أو السفر إلى بلد.
ومن النصيحة: الاستشارة؛ قال ابن رجب: "ومن أعظمِ أنواع النصح أنْ يَنْصَحَ لمن استشاره في أمره؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا استَنْصَحَ أحدُكُم أخاه، فليَنْصَحْ له))6. وفي بعض الأحاديث: ((إنَّ من حقِّ المسلم على المسلم أنْ ينصحَ له إذا غابَ))7. ومعنى ذلك: أنَّه إذا ذكر في غيبه بالسوء أنْ ينصره، ويرد عنه، وإذا رأى من يريد أذاه في غيبه، كفه عن ذلك، فإنَّ النصح في الغيب يدلُّ على صدق النصح، فإنَّه قد يظهر النصحَ في حضوره تملقاً، ويغشه في غيبه.
قال الحسن: وقال بعضُ أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنْ شئتم لأقسمنَّ لكم بالله إنَّ أحبَّ عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده ويُحببون عباد الله إلى الله، ويسعون في الأرض بالنصيحة.
وأما النصيحة للذمي -وهو من كان من الكفار يدفع الجزية للمسلمين- فليس لك أن تنصحه؛ كما يقول الإمام أحمد رحمه الله: ليس على المسلم نصحُ الذمي، وعليه نصحُ المسلم. وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((والنصح لكل مسلم8، وأنْ ينصح لجماعةِ المسلمين وعامتهم))9.
الحق الرابع: تشميت العاطس، كما جاء في الحديث السابق: ((وإذا عطس فحمد الله فشمته)) أي إذا عطس المسلم فحمد الله، بأن قال: الحمد لله، أو ما أشبه ذلك من الصيغ التي وردت بها السنة الصحيحة فقد وجب عليك أن تشمته لظاهر الحديث، بأن تقول له: يرحمك الله، وعليه أن يرد عليك بقوله: ((يهديك الله ويصلح بالك)). أو بأي صيغة أخرى وردت بها السنة النبوية الصحيحة.
ويستحب أن يشمت العاطس إذا تكرر منه العُطاس إلى ثلاث مرات وما زاد على ذلك فليدع له فإنه مزكوم؛ قال النووي رحمه الله: "إذا تَكرّرَ العطاسُ من إنسان متتابعاً فالسنّة أن يشمِّته لكل مرّة إلى أن يبلغ ثلاث مرّات"10.
مستدلاً على ذلك بما روي عن سلمة بن الأكوع أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس عنده رجل فقال له: ((يرحمك الله))، ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجل مزكوم)11.
وبما روى أبو داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع أنه قال: عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يرحمك الله)) ثم عطس الثانية، أو الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يرحمك الله، هذا رجل مزكوم))12.
وأما إذا عَطَسَ ولم يحمد اللّه تعالى فأنه لا يُشمّت، وكذا لو حمد اللّه تعالى ولم يسمعه الإِنسان لا يشمّته.
ولكنه إذا لم يحمد الله أصلاً استحب لمن عنده أن يذكره الحمد، كما ذكر ذلك النووي13.
وأما إذا عطس اليهودي أو النصراني، أو ما شابههما؛ فلا يدعو له بالرحمة، وإنما يدعو له بالهداية؛ لحديث أبي موسى الأشعري قال: كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول: يرحمكم الله، فكان يقول: ((يهديكم الله، ويصلح بالكم))14.
الحق الخامس: عيادة المريض: (وإذا مرض فعده) أي إذا مرض فإن من حقه عليك أن تزوره، وأنت في زيارته لم تزل في خرفة من خرف الجنة؛ فعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع). قيل: يا رسول الله وما خرفة الجنة؟ قالجناها)15. ويستحب له إذا زاره أن يقعد جنب رأسه، وأن يدعو له بما كان النبي يدعو لمن يزوره؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده فقال: ((لا بأس طهور إن شاء الله)) الحديث16.. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرار: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض))17.
الحق السادس: اتباع الجنائز، ((وإذا مات فاتبعه)) أي إذا مات فاتبع جنازته حتى تصلي عليه، فإن صحبته إلى الدفن كان أولى؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد الجنازة حتى يصلي فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان)). قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين))18.
وهذه الحقوق التي ذكرناها يستوي فيها جميع المسلمين، كما يقول البغوي: "وهذه المأمورات كلها يستوي فيها جميع المسلمين برهم وفاجرهم غير أنه يختص البر بنحو بشاشة ومساءلة ومصافحة دون المظهر للفجور"19.
وقال ابن العربي: "عليك في رعاية هذه الحقوق وغيرها بالمساواة بين المسلمين كما سوى في الإسلام بينهم في أعيانهم، ولا تقل هذا ذو سلطان وجاه ومال وهذا فقير وحقير، ولا تحقر صغيرا، واجعل الإسلام كله كالشخص الواحد، والمسلمين كالأعضاء لذلك الشخص، فإن الإسلام لا وجود له إلا بالمسلمين كما أن الإنسان لا وجود له إلا بأعضائه وجميع قواه الظاهرة والباطنة"20.
وقال بعض العارفين: "إذا رعيت حق المسلم لله فإن الله يؤتيك أجرك مرتين من حيث ما أديت من حقه، ومن حيث ما أديت من حق تعين عليك حقه من خلقه"21.
والله نسأل أن يعيننا على أداء الحقوق، وأن يثبتنا على طاعته، وأن يتوفانا وهو راض عنَّا.